الياسَمين يعرفني

إهداء:

إلى الرجل الشرقي و المرأة الشرقية
الحبيبة ستّ الحبايب،
و إلى بلد الياسمين، بلد التاريخ و الحنين.

البداية:

ما إنْ تجاوزتُ الحدودَ من بلدِ الأرزِ إلى بلدِ الياسَمين حتّى رفّ قلبي وهامَت مشاعري، آمالي وروحي، وأحسَستُ أنّي أنتمي إلى غيرِ هذه الأرض كلّها!
ثم تمالكتُ نفسي وقلتُ :
– لماذا أشعرُ وأنا في كلّ بلدٍ أنّني أنتمي إلى آخرٍ؟ أمّا اليوم وأنا على الحدودِ أشعرُ وكأنّي لا أنتمي إلى أيِّ مكان.
وصلتُ إلى مدينةِ الياسَمين أنظرُ في المكانِ لعلّي أرى أناساً تُشبَهني… الناسُ في هدوءٍ لا يتفوَّهون بكلماتٍ تدلّ على الحياةِ بل الكلُّ يريدُ عرضَ المنتوجاتِ من بضائعَ وأعمالٍ وحتّى أفكار!
– يا مدينتي هل وصلَ إليكِ مرضُ التجارةِ غير الشريفة؟ وبراميلُ النفطِ وأسعار اليورو والدولار؟
أينَ صوتُكِ المعتاد؟ صوت عاصمةِ كلّ البلاد؟
تمشّيتُ في الأسواقِ ، أتنفّسُ رائحةَ الماضي ، رائحةُ الناس المنتجة وليس المستهلِكة فقط!

رُحتُ أحدّثُ نفسي :
– كُنّا نتبادل البضائعَ ببضائعٍ أُخرى لا بأوراقٍ عليها رسوماتٍ باتت بالية! …….
أصواتٌ هنا وهناك… فالكلّ ينظرُ الى الأعلى منتظراً بلا هدفٍ مرتفعاً عن الأرضِ بأحلامِه حتى باتت الأرضُ وحيدةً جائعةً تصرخُ للحالمِ ” أنا الأرضُ محقِّقةَ الأحلامِ، إزرعني أولاً ثم أُدعُ للمطرِ وليس العكسَ يا بني…”
…..
في السوقِ محلّات كثيرة وألوانٌ أكثَر تتركُ لمخيّلتك أن تذهبَ الى العصرِ والزمان الذي تريد.
– هذا سوقيَ المفضّل! سوقُ أجدادي ومستقبلي الماضي.

لفتَ نظري دكّانا صغيرا كبيرا، عُلِّق على زُجاجِه أوراقاً نقديّةً قديمةً خيّبت آمالي، لأنّها وبالرغمِ من جمالِ رسومات الأوراق المتآكلة… تذكّرتُ مشكلةَ بلادِنا
” لكَمْ كثُر إستهلاكنا وقلّ إنتاجُنا!”
سمعتُ صوتاً في الداخلِ أجملَ من أصواتِ كلّ البائعين، فهو لا يبيع! كان تحفةً مع أغراضِه القديمةِ.
صوتُ رجلٍ شرقيٍّ في كلّ مواصفاتِه، جميلُ اللونِ غائرُ العينينِ رافضاً أن يقولَ للماضي إرحلْ! وما بخُلَ عليه الوهّاب ببهاءِ الطلعةِ، فتراهُ يشربُ القراءةَ حتى يثمَل،
يقولُ في المرأةِ شعراً، يلفظُ الشّعرَ كالنحلةِ من شاعرٍ إلى قصيدةٍ، وأكثر ما يُلفته شاعرُنا حافظ إبراهيم عندما قالَ ما معناه:

“إنّ ليس بالعلمِ وحده ينتفعُ الإنسان بلا أخلاقٍ تتوّجُها… وإنّ في الشرقَ مُشكلةً بتربيةِ النساء…”

وتراه يُدمدمُ هذا البيتَ الذي يسكنُ كلّ بيتٍ ألا وهو:

“الأمُّ مدرسةً إذا أعددتَها أعددتَ شعباً طيًب الأعراقِ”

وبصمتٍ رائعٍ يعودُ كالطفلِ بين ذراعيّ والدته فيُكمِلُ،

“الأمٌ رَوْضٌ…
الأمّ أستاذُ الأساتذةِ… فتوسّطوا في الحالتين وأنصِفوا، فالشرُّ في التقييدِ والإطلاقِ
ربّوا البناتَ على الفضيلةِ إنّها في الموقفينِ لهنّ خيرِ وثاقِ”

سألني الدخولَ إلى دكّانِه المليء بالأشياءِ الثّمينةِ، وهو يعرفُ أنّه لن يتركَ شخصاً مثلي يقفُ وعيناه معلّقتان بكنوزِ مغارة “علي بابا”!

الشرقيّ: تفضّلي تفضّلي…
بنتُ الشّرق: “يا عمّ” أودّ سؤالك عن هذه المخطوطة كمّ عمرها ؟ (مخطوطةٌ معلّقة على بابِ الدُكّان)

الشرقيّ:(يضحك)، وهل فهمتِ المكتوبَ عليها لتسألي عن عمرِها ؟

(أخجلني ردّه) ! وبإسلوبِ الياسَمين كيما أُفهِمُه أنّي ما فهمتُ المكتوبَ عليها إلا أول وآخر حرف قلتُ له:
أنا بنتٌ عربيّة وأفهم هذه اللّغة!

الشرقيّ: وأنا منذ خمسينَ عاماً أحاولُ قراءتَها وما أفلحتُ وأتمنّى أن يقرأَها لي من كتبَها
(وصار يضحك)…تفضّلي تفضّلي

دخلت إلى دكّانِه فكلّ الأشياءِ تشدّ البصرَ إليها وعند التمعّنِ بها تنسيكَ الحاضر لترسلَكَ إلى عالمِها وماضيها… عالمٌ فيه رمادُ سجائرَ التاريخِ على الأشياءِ وهي تُصنع أو تُكتب… عالمٌ فيه آلهةً من الطبيعةِ اخترعناها…عرفناها وأحببناها، أمّا الله الحقيقيّ فقصّته معنا مختلفة.

جالَتْ عينايّ عبر الزمانِ من قَرنٍ الى قَرن … وأنا في القرنِ الثامنَ عشرة قاطعَني وسأل: أيُعْجِبُكِ المكان؟

بنتُ الشرق: جَميلٌ جداً! “عمّي” هل حَضرتُك المالِك أم ورثتَهُ عن أبيكَ؟

الشرقيّ: ما الفرق؟

بنت الشرق: عندما نرثُ شيئا من ذوينا في الغالبِ لا نتعبُ فيه ولا نفتِّشُ عن أصلِهِ، ولكن لو كانت القطعُ من اختيارِكَ وانتقائكَ بكلِّ جدّيةٍ وتفكيرٍ وقد أحببْتَها قبل إمتلاكِها لكنتَ التصقْتَ بها كخيالِكَ.

الشرقيّ: صحيحٌ أنّي ورثتُ الأشياءَ عن والدي لكنّني أحببتُها ووجدتُ نفسي متعلّقاً بها.

بنتُ الشرق: أتحسَبُ تعلُّقُكَ بها فقط لأنّكم كبرتم سويةً ؟

الشرقيّ: ما فكرْتُ في حياتي بسؤالِكِ، لكنّه سؤالٌ يجدرُ التوقّف عنده. هل هناك فرقٌ بين الوراثةِ والإختيار؟

وهنا قاطعنا شخصانِ ليسألا الشرقيّ

الشاب الأوّل: “عافاك الله يا عمّ”… يا تُرى أَنَجدُ لديكَ عُمُلاتٍ ورقيّةٍ فلسطينيّة قديمة؟

الشرقيّ: هذه الأيّام أنا أشتري العملاتِ.. ،لا أبيع.

الشاب الآخر: ولمَنْ ستخبِّأها يا عجوز!؟
(وبدأو بالضحكِ)

الشرقيّ: لو سمحتُمْ … يا شباب أخرجوا من دكّاني!

وخرج الشابانِ كمثلِ من تابع فيلمٍ فكاهيّ. ضِحكٌ وصوتٌ عالٍ قد أدهشَ المارّة … حتى أنا خجِلتُ من تصرّفِهما وتساءلتُ “متى أصبحتْ بلادُنا سعيدة إلى هذا الحد!”

فقال الشرقيّ بعصبيّةٍ: الناسُ أجناس…أنتِ دخلتِ كفراشةٍ ما أحسسْتُ بها، أمّا هُم فما عَرَفتُ كيفَ أُخرجُهم من دكّاني!

بنتُ الشرق: هل تقول الناس أجناس كالمعادِن؟

الشرقيّ: بالضبط!

بنت الشرق: ومنذُ متى تتبلورُ مادّةُ الشّخص؟

الشرقيّ: منذُ الولادةِ!

بنت الشرق: يعني عُدنا إلى نقطة الوراثةِ والإختيار. ألا يمكنُ للشابانِ أن يكونا أكثر تهذيباً بإختيارِهِما أم هم وُلِدوا قليليّ التهذيب؟

الشرقيّ:أكيد هم وُلِدوا قليليّ التهذيب، كما ثلثيّ البشرية…(يداهُ ترتجفان)

بنت الشرق: وأنا ما رأيُكَ بي؟

الشرقيّ: أنتِ يا ابنتي إسْمحي لي أن أدعوكِ الأتْرُجّة (البرتُقالة)، وُلِدتِ طَيّبة.

بنت الشرق: أنتَ شاعرٌ منذ الولادة أتسمحْ أن تكتبَ لي كلماتٍ بيديكَ!
وهنا كتب لي ما يلي:
“رأيتُ بنتَ الشّرقِ، فإذا هي فخرُ النساءَ في قولِها، ومكارمُ أخلاقِها، مثل الأترجّة، لونُها جميل، وريحُها طيِّبٌ، وطعْمُها لذيذٌ، حيّاها مَوْلاها، وأعطاها، وأرضاها.”

أعطاني الورقة وبعد قراءتي لما كَتب قلتُ له ما جعل وجهه يرفض ما كتبتْ يداه
فقد قلت له ثلاث كلماتٍ وهي : أنا ولدتُ شريرةً!

هنا وبعد أن تجعّدَ وجهَهُ الجميل المسِنّ عادَ فضحكَ وقال: لنْ تجدي شريراً يعترفُ بشرِّه، وها أنتِ قد أخطأتِ مرتينِ، مرّةً بإعترافِك ومرّةً عند قولِها بلطفٍ (ابتسَمَ)

بنت الشرق: أنتَ تؤمنُ بالوراثةِ، أليس كذلك؟

الشرقيّ: طبعاً

بنت الشرق: وها أنا قد ورِثْتُ طبيعتي الشريرة أيّ غير المطيعةِ، ألا تعتبر عدم الطاعة شرٌّ؟

الشرقيّ: وأبغضُ الشرورِ… لكن عن أيّ طبيعةٍ تتكلّمين، الطبيعة البشريّة؟

بنت الشرق: نعم، التي ورثناها عن أبينا آدم (ع)، فهو ما طاعَ وطُرِدَ من الجنّةِ وطُردْنا معَهُ، فهذه وراثة أليس كذلك؟

الشرقيّ: صحيح، لكن ما ذنبي وذنبُكِ بما فعلَ “أبونا آدم (ع)”؟

بنت الشرق: ذنبي وذنبُكَ أنّه أبونا ونحن من سلالتِهِ… ولكن يمكِننا إختيارُ شيءٍ آخر. وما أنتَ تراهُ الآنَ من تجديدٍ في طبيعتي هو إختياري أنا، فأنا “يا عمّي” ما سمحتُ لنفسي أن أتمادى في عدمِ الطاعة وأكتسبُ منها العاداتِ السيئة الأخرى.
لأن طبيعتَنا البشريةُ أمّارةٌ بالسوءِ فترانا نكذبُ، نسرقُ، نقتلُ، نحسدُ، نشتهي ما للغيرِ… ومنذ سنواتٍ تمرّدتُ على نفسي وفتّشتُ عن الحقيقةِ وأردتُ أن أتغيّرَ وها أنا اليومَ “أترجّة”!

فسألني الشرقيّ: مِنْ أينَ أنتِ؟

بنت الشرق: أنا من عاصمةِ الياسَمين ، فكلّ العواصمَ العربيةِ عرَفتُها، أمّا عاصمةُ الياسَمين فتعرفُني! أورثَتْني عطرَها…
وبعدَ نظراتٍ إلى حروفِ الورقةِ التي في يدي، رأيتُهُ يحاولُ الفرحَ بصرخةٍ وأنا أحاولُ الصراخَ بفرحٍ .
كان فرحُنا سبَبُه تغلّبنا على ثالثِنا حسب القول القائل “ما اجتمع رجلٌ وامرأة إلاّ …” أمّا الآن فاحتْ رائحةُ النقاءِ، رائحةُ الياسَمين.

قاطَعَنا الهاتفُ… وكان إبنُه يطمئنُّ عليه ويسأله:
… والدي، أتريدُني أن آتي في وقتِ الصلاةِ لتستريحَ وتصليَ في الجامع؟

نظرَ الشرقيّ بعينيهِ الى الخارجِ ينصتُ الى صوتِ الآذانِ والمارّةُ يتفرّسونَ في الواجهةِ.
خُيِّل اليَّ أنّه يطلبُ منهم عدمَ الدخولِ لأن في مقابلتِنا ما هو أهمُ من عرضِ كنزِه الثمين!

الشرقيّ: أنا قادمٌ بعد قليلٍ… مشغولٌ الآن (يبتسِمُ)
وبعد أن أقفلَ الهاتفَ شرحَ لي كيف يتناوب وإبنَه في العملِ!
وبينما هو يتحدّثُ … رحْتُ أقلّبُ الأشياءَ كطفلةٍ تتعرّفُ لأوّلِ مرّةٍ على موهبةِ المشي. وكنتُ في حديثٍ شيّقٍ مع نفسي أمسكُ قلبي بيدٍ والأثرياتِ باليدِ الأخرى،
” يا الله ما أروعَ بصمةَ الزمنِ فوق إبداعاتِنا!…

الشرقيّ: يا ابنتي قد ذكرتِ أنّك تغيّرتِ! من غيّركِ، وكيفَ؟

كان سؤالٌ لطالما سألته من قبلِهِ والجوابُ موجودٌ ينتظرُ من يسألَ عنهُ…

بنتُ الشّرق: يُهِمُّني أنّكَ إعترفتَ بتغييري لنبدأَ، إذنْ مِنْ هنا!

الشرقيّ: نعم، فكّرتُ بطبيعةِ الناسِ ، ومن منّا معصومٌ عن الخطأِ غير الأنبياءِ (ع)؟

بنتُ الشّرق: يا سيّدي هل آدم (ع) نبيٌّ؟

الشرقيّ: ومن الأنبياءِ الأوّلينَ!

بنتُ الشّرق: حسناً، عندما أكلَ من الثمرِ الممنوع في الجنة، لم يُطعْ ما طلبَه الله منهُ، هل يُمكِن أنّ نسمّيَ عدم الطاعة هذا عصيان ؟ ما رأيُكَ؟

الشرقيّ: لكنَّه تابَ وغفرَ لهُ الله تعالى لذلكَ هو معصوم!

بنتُ الشّرق: التوبةُ تعني أنّهُ تابَ عن خطأ ما ! وهذا الخطأ أتَتْ منه تسمِياتٍ كثيرةٍ، خطيئة، ذنب، معصية… وهذا ما حصل.

الشرقيّ: أستغفرُ الله العظيم، كيفَ تقولينَ أنّ الأنبياءَ غيرَ معصومين؟ أكْمِلي يا ابنتي… لو فرَضنا أنّ آدم (ع) قد أخطأ فما ذنبنا نحنُ؟

بنتُ الشّرق: ما جعلني أتكلّم مطوّلا عن المعصية هو ما سبق وذكرتُ أنّ كلّ النّاس هم أولادُ سيّدنا آدم (ع). فنحنُ وكلّ إخوتَنا وآبائنا وحتى أبناءَنا هم من لحمٍ ودمّ ومن صلبِ آدم (ع). ورِثنا عنْه المعصيةَ ويعوِزُنا اليوم أنّ نتغيّر بدون أنّ نغيّرَ لحمَنا ودمَنا!

الشرقيّ: إذنْ فأنتِ تقولينَ أنّه لو كانت لي أخلاق جيدة أو كنتُ مجرماً فالنتيجةُ واحدةٌ؟

بنتُ الشّرق: الأستاذُ، الطبيبُ، العاملُ، المجرمُ واللصّ كلّهم بشرٌ. أنا وأنتَ وكلّ الناس أبناء آدم “يا عمّي”، المعلّمُ يعلّمُ الفضيلةَ، أمّا تاجرُ السوءِ فيعلّمُ الرذيلةَ، هذا لا يغيرُ شيئاً من أصلِه ولكن…

الشرقيّ: أريدُ لكِنّ هذه…

بنتُ الشّرق: … ولكن طبعاً معلّمُ الرّذيلةِ يَزيدُ حظَّه السيّء مع المعصيةِ!

الشرقيّ: آه يا ابنتي حانَ وقتُ صلاة الظهرِ، وعليّ أن أصلّيها في موعدِها. أيمكنُكِ أن تعودي بعد قليلٍ وأُحضرُ الشاي ونكملُ حديثَ الياسَمين!

بنتُ الشّرق: طبعاً أعودُ بعد قليل .

بعد حديثي مع الشرقيّ، شعرتُ وأنا في سوقِ الياسَمين وهو السوقُ الشعبيّ المغطّى، أن أجنحةَ الملائكةُ ترفّ فتفوح رائحةُ حنين الماضي وأروقة المستقبل.
الملائكةُ لا تموت، والياسَمينُ أيضاً لا يموتْ ، مجتمعانِ في مدينةٍ واحدةٍ ملخّصُها هذا المكان سوق الماضي ، ودكّان صاحبنا الشرقيّ هو مركزُه.
إنقضى الوقتُ وقرّرتُ العودةَ. فتراني أطيرُ خطواتٍ وأرقصُ أخرى ، سعيدةً برفقةِ هذا الشخص الخليط بين الأمسِ واليوم في آنٍ واحد.

بنتُ الشّرق: السّلامُ عليكُم.

الشرقيّ: وعليكُم السّلام … أهلاً وسهلاً مرةً أخرى وليسَتْ أخيرة إنشاءالله، هيا فقد طلبتُ الشاي من البيت، تفضّلي.

بنتُ الشّرق: أشكرُكَ على لطفِكَ أنا لن أتأخّرَ، أريد العودة إلى البيت قبل المساء.

الشرقيّ: أين تجوّلتِ؟

بنتُ الشّرق: هنا! هنا أنتَ لا تذهبْ الى أيّ مكانٍ ، فهنا المكانُ يأتي إليكَ! هنا يجمعُ كلُّ مَنْ يفتّش عَنْهُ…

الشرقيّ: جميلٌ هو هذا المكان الذي لا مكانَ له! وبالنسبة لكِ اليوم، أين أنتِ؟ (يعطيني كوب الشاي)

بنتُ الشّرق: شكراً! أنا اليوم هنا لأُجيب عن سؤالٍ طرحناه منذ قليل، وهو كيف أغيّر نتيجة المعصية ولا أغيّر لحمي ودمي؟ وأنا إبنة آدم (ع)، كيفَ أتحرّرُ من خطيئتِهِ وعصيانِهِ؟

الشرقيّ: الحلُّ الوحيدُ هو أنّ تولدي من أبٍ آخرٍ وهذا غير منطقيّ!

بنتُ الشّرق: أنتَ قريبٌ يا عمّ ، ما رأيك أن يتبنّاني من يستطيع أن يحرِّرَني من عقابِ بشريّتي أيّ يعتقني من معصية آدم (ع) ؟ ومن يحملَ عني ذنبٍ ما قصدتُه ، فقط ورثته!

الشرقيّ: من يتبنّاكِ يجب أن يُعاقبَ عن البشريةِ كلّها ! ومن غيرُهُ تعالى يغيّرُ النتيجة؟ لماذا لا يمحي الله عنّا هذه المعصية وانتهى! يا ابنتي هو غفور رحيم.

بنتُ الشّرق: هو يغفّر المعصية بعد حصولِها لو أراد لكنّه لا يمحيها قبل حدوثها! يا عمّي أنتَ تَعْلَم أنّ كلام الله سبحانه نهائي وعندما يقول كنّ…

الشرقيّ: فيكون … آه الحمدلله ربٌ العالمين على قدرتِهِ وعلمِه!

بنتُ الشّرق: الله عزّ وجلّ غفور رحيم وكلمتُه أزليّة… سبحانه قال لآدم موتاً تموت ، وطرد آدم(ع) من الجنة! ونحن طُردنا معه!

الشرقيّ: لكنّ آدم (ع) لم يمتْ فقد تاب.

بنتُ الشّرق: تابَ نعم، فغفر له الله سبحانه برحمتِه، وفداه من الموتِ بذبيحة، الذبيحة التي كساه وأمّنا حوّاء بها وألبسَهُم وسترَ معصِيتَهُم..، وحيث أنّهُ تعالى عادلٌ لم يُبقِ آدم (ع) وحوّاء في الجنّة لكنّه طردهم منها نهائياً لأنّ
“الذي يزرعه الإنسان إيّاه يحصد أيضاً!”

الشرقيّ: هل التوبة فقط بذبيحة! وماذا عن الأعمالِ الصالحة؟

بنتُ الشّرق: أعمالَنا الصالحة لا تُفيُدنا، وكيفَ نستطيع أن نعملَ عملاً صالحاً مقابلَ كلّ معصيةٍ!! الأعمالُ الصالحة يجب أن تكونَ نتيجة الإيمان . إن إيمانَنا بأن الله ينقذنا من عقابِ المعصيةِ هو الإختيار الذي يحّررنا… وهذا يعني إن كنتَ مؤمناً تعمل عملاً صالحاً وليس العكس، العمل الصالح هو ثمر الايمان ، والأيمان ليس التسليم بوجود الله فقط بل أيضاً بقبولِ عمل الله الفدائي أيّ هبة الرّحمة.

الشرقيّ: آه، ومن سيحملُ العقابَ الذي لا بدّ منه؟

بنتُ الشّرق: الله نفسه! نعم لانه ما من أحدِ يستطيعُ أن يحملَ عقابَ معصية البشرية غير واضعِ العقاب نفسه.

الشرقيّ: الله نفسه ! فسّري لي ماذا ومتى نختار! في البداية قلتِ أنٌه مقابل الوراثة هناك إختيار.

بنتُ الشّرق: نعم ، كما أنا وأنتَ ورثنا المعصية أيضاً وطُردنا من الجنة، فالله تعالى وجدَ لنا حلاً وتحمّلَ النتيجة . نحنُ ورثنا المعصية ونحنُ نتحرّر بإختيارِنا لندخلَ الجنة.

الشرقيّ: وكيف ذلك؟ كيف تعرفين أنكِ ستدخلينها ؟ فالعلم عند اللهِ! هذا كفرٌ يا بنتي ، إنتبهي!

بنتُ الشّرق: أنا إخترتُ أن اتحرّرَ من المعصيةِ بإيماني بالفداءِ العظيمِ وبرحمة الله تعالى وطلبي التوبة ، ونتيجة هذا الإختيار أُعتِقْتُ من العقابِ وسأدخلُ الجنّةَ بعد الموت.

الشرقيّ: وما هو هذا الحلّ المجّاني، الفداء العظيم؟

بنتُ الشّرق: سأعطي مثلا بِما معناه وهو عندما يصنعونَ السيارة يضعونَ فيها مكابح لتحفظَنا من الحوادث ، وهم واثقونَ أنّنا سنكونُ في أمانٍ عند استعمالها في حالة الخطر. هكذا أيضا ربُّنا العظيم منذ بدايةِ الخلق، وضعَ لنا خطةً للرجوع إليه تحفظّنا في أمانٍ عند إختيارنا لها وتؤهِّلُنا للدخول إلى الجنّة، أمّا الجنّة كما يسمّيها سبحانه هي “المملكة الربانيّة” أيّ محضره تعالى.

الشرقيّ: وما هي هذه الخطّة ؟ أنا متشوّق جداً الآن، تابعي…

بنتُ الشّرق: كان العقابُ لمعصيةِ آدم (ع) هي طردُه من الجنّة ، وتكفيراً له عن معصِيتِهِ ذبحَ الله تعالى كبشاً وغطى آدم (ع) وحوّاء بجلدِه، وأُريق دم الكبش أيّ الذبيحة للتكفيرِ عن الذنبِ… كما نفعل اليوم في الأضحى المبارك وكما فعل الله تعالى عندما أنزل الكبش فداء” عن إبن سيّدنا إبراهيم (ع) ونجّاه من الموت! فكلّها قِصصٌ حصلتْ تَعَلَّمنا من خلالِها ماذا يعني الفداء وقيمة الذبيحة ولماذا يُراق دمِها.

الشرقيّ: وها نحنُ اليومَ نضحّي عن كلِّ معصيةٍ وعن كلِّ أمّتنا في كلَّ عام.

بنتُ الشّرق: يا عمّ وهل تكفي ذبيحة عن كلّ معصية؟ … حتى لو تنفّسنا نحن خُطاة !

الشرقيّ: الحقُّ معَكِ! حتى في عيونِنا نحن نخطئ ، يعني أنّ نَذبحَ ليلَ نهار لا يكفي!!
بنتُ الشّرق: لكنّ الله عظيم، فحضّر لنا ذبحاً عظيماً ولمرة واحدة يكفي للعمرِ كلَّه. لذلكَ أقول لكَ إنّ الله تعالى بنفسِهِ ضحّى من أجلنا ، أي نال العقاب كما الأبّ الحنون الذي يُعاقب عن فِعلةِ إبنه!
لقد تواضع تعالى وأتى ليقول “أنا وضعتُ القانون وأنا سأنفّذه” فكانت الخطّة البديلة…
أتى الله تعالى (بما معناه) وتواضَع ووضعَ روحه في بشرٍ، فاختارَ سيّدنا المسيح (سلامه علينا) لأنه كان يجب أن تُراقَ الدماء وكان هو الكبش عن معصيتِنا بل معاصينا. لقد أتى المسيح (س ع) ليموت عنكَ وعني وعنْ البشرية جمعاء لكنّهُ انتصرَ على الموتِ لأنّه ليس كبشاً عادِياً.

السيد المسيح ( س ع) هو صورة الله تعالى الذي نالَ العقاب ، ماتَ جسدياً وقام، لأنّ روحَهُ لم تمتْ، لأنّ الله حاشا له أنّ يموت!
الشرقيّ: استغفري الله يا ابنتي! إنه كلام غير مقبول، فالمسيح هو سيّدنا عيسى (ع) وهو بشريّ من لحمٍ ودم، وأيضا هو نبي كباقي الأنبياء حامل رسالة.

بنتُ الشّرق: يا عمّي كيف تفسّر لي الآية التالية “سلام عليّ يوم وُلِدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعثُ حيّا”… وها هو قد ماتَ وبُعِث حياً…

الشرقيّ: سألت أنا هذا السؤال قبلكِ وفتّشتُ مثلكِ وعرفتُ أنّه سيعود يوم القيامة ويموت ، ويعود مرّة ثانية.
بنتُ الشّرق: وهل أقنعكَ الجواب؟ فأنا فتّشتُ الكتبَ والتفاسير التي تقولُ ما ذكرتَ، وأشياءَ غير ذلكَ فكلّها إجتهاداتٍ. نأخذُ من التفسيراتِ ما يلمس قلوبَنا وندعو الله لإخوتِنا على فهمِ ما تيسّر من الذِكرِ المَبين!
لكن بعد هذا كلّه وبعد أن تعبتُ من التفتيش، سألتُ الله سبحانه وتعالى هذا الدعاء:
“يا ربّ من هو المسيح ؟ وما هي خطة الفداء؟ ولماذا آدم النبّي (ع) قد أخطأ وغيره من الأنبياء الذين اخطأوا لا تُذكر خطاياهم مع أنّها كبيرة ؟ وكيف هم معصومون؟ ومثل النبي داوود (ع) فقد قتل كما ورد في سورة البقرة :﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾،251، والقتل معصية مكتوب “لا تقتل”… تُكمِل الآية لتذكر أنّه لو لا القتل لفَسَدت الأرض فطُلِب من النبيّ أنْ يقتل، يا ربّ هل الغاية تبرّر الوسيلة فيصبح القتلُ مبرراً والنبيّ معصوماً؟.

أتاني الجواب وأنارَ اللهُ قلبي
وعرفتُ أنّ المسيحَ ربّي
ولحين عودته أعلنتهُ منارة دربي.

الشرقيّ: استغفر الله العظيم! ولحين عودته… ماذا سيحصل عند عودتِه! ماذا تعرفين عن عودتِه؟

بنتُ الشّرق: عندما يعودُ السيّد المسيح ( س ع) على الأرضِ سيأخذُ معهُ كل مَنْ آمنَ بخطةِ الله البديلة وهذا مكتوب، وهل يغيّر الله كلامَه؟ وهل يسمح بأن يحرِّفَ أحداً أقوالَه؟ قال كن فكان وكانت روحَه في بشرٍ مثلنا . فأُمّه سيّدة نساء العالمين السيّدة مريم (ع) هي من أبٍ وأمٍ بشريين، قد أنعم اللهُ عليها ووضع روحه القدّوس فيها فكانت الولادة المعجزة.

في تلك اللحظة رجفتْ يداهُ أكثر من العادةِ واغرورقتْ عيناهُ المجعّدتانِ وقالَ يدَمْدِمُ ” سُبحانَ ربيّ العظيم وبحمدِه… سبحان ربيّ العظيم وبحمده” كان يتلي صلاتَه وهو جالسٌ ينظرُ من حولِهِ وكأنّه يسلّم على الملائكةِ الحاضرة عند الصلاة ليقول ” هل أقبل ما تقولَهُ بنت الشرق؟ هل أصدّق؟ وهل أسْمح لها بالمضي في الكلام؟”
نظر إليّ وقال…

” أنا أريدُ أنّ أصدّقْ لكنَّني أخافَ أنّ يكونَ هذا كُفراً يا ابنتي أنّ نقولَ أنّ السيّد المسيح ( س ع) هو على مستوى الله تعالى!!
أشعر الآن بإحساسٍ غريب ، أشعر كأنّي طفلٌ يريدُ أن يبْكي… أخجل منك.

أذكرُ في تلك اللحظة أنّه وقبل أنّ يُكْمِلَ كلامَه كنتُ أنا من يبكي! بكَيتُ وبكيتُ بدموعٍ صامتة. ما صدّقتُ كيف تحوّل من عمرِ السبعينَ إلى أقلَّ من عشر سنوات. لقد عادَ يبتسمْ والدموعُ في عينيهِ كرائحةِ المكان.

بنتُ الشّرق: أتصدّق ما قلتُه لك؟ أتصدّق أنّ السيّد المسيح (س ع) هو مَنْ ضحّى عنكَ وحملَ معصِيَتَكَ ؟ لو صدّقت وآمنْتَ، تكونُ قد إخْتَرْتَ فتَصيرَ حراً .
هكذا هي الحقيقة صعبة وتصديقُها السهل الممتنع!

الشرقيّ: نعم أصدّق والحمدلله على كلّ شيء…سبحان ربيّ الأعلى وبِحَمْدِه!

وكان دعاءٌ تمنيتُ أن يُكتب في المخطوطة التي لفتتني وقت دخولي، رأيتُ كلّ المخطوطاتِ هناك تعيد كتابة ماضيها، ونهلّلُ معاً ونردّد: الشرقيّ، بنتُ الشّرق، المخطوطات…

“يا إلهنا الصّالح الأمين يا ربّ العالمين
يا توّاب إرحمْنا وإرحمْ عبادك الصالحين
من أجلِ توبة نسألُ النجاة المبين
وبشفاعةِ سيّدنا المسيح نسألُ رحمتك ، آمين
طهّر ونقّي قلوبنا يا الله يا عزيز يا مُجيب يا مُنيرٌ طريق الضّالين
أمامكَ عبدُك وعبدتُك يتضرّعون ، لِتَكُنْ مشيئتك يا رب العالمين
نطلبُ رحمة ورأفة ونقاء لنسلك في صُراطك المستقيم”.
وكأنّ شعاعٌ ينبعث من فوق الرفوف محوّلا التحف الى كنوزٍ تلمعُ… وأنّ ملائكةِ المكان قد اجتمعتْ كلُّها هنا لتحكي في السماءِ ما حصل ذلك المساء.
تنازل الشرقيّ عن قسوة الرجولة وتبدّلتْ ملامحَهُ من طاعنٍ في السنّ الى مقتبلِه وانفجر بكاءً، سمِعتَهُ يُتَمتِم والدموع على خدّيه…
“صدّق، فقط صدّق” قلتُ له
وقفتُ وتوجّهتُ إليه وهو يحاولُ مسح دموعِهِ بمنديلِه…
بنتُ الشّرق: هذه دموع الحريّة يا أبي!

الشرقيّ: كيفَ أشكركِ ، فقد علّمتيني كيف أكونُ حُراً، أنا مرتاحَ الضمير جداً الآن وسعيد كما لو أنّي في حالة صلاة دائمة! هل تأتين الى هنا دائماً ؟ أتوقّع منكِ زيارة أُخرى يا ابنتي.

بنتُ الشّرق: أنا ما عَلّمتُكَ أنا أَعْلَمْتُك! سأعود ونلتقي إنشاءالله في مدينةِ الياسَمين، وإنّ لم يكنْ هنا فسوف نلتقي هناك في مملكةٍ لونها بلونِ الياسَمين . فكما مدينة الياسَمين تعرفني صارت مملكة الياسَمين تعرفُكَ.
ما إنْ تجاوزتُ الحدودَ من بلدِ الأرزِ إلى بلدِ الياسَمين حتّى رفّ قلبي وهامَت مشاعري، آمالي وروحي، وأحسَستُ أنّي أنتمي إلى غيرِ هذه الأرض كلّها!
ثم تمالكتُ نفسي وقلتُ :
– لماذا أشعرُ وأنا في كلّ بلدٍ أنّني أنتمي إلى آخرٍ؟ أمّا اليوم وأنا على الحدودِ أشعرُ وكأنّي لا أنتمي إلى أيِّ مكان.
وصلتُ إلى مدينةِ الياسَمين أنظرُ في المكانِ لعلّي أرى أناساً تُشبَهني…
الناسُ في هدوءٍ لا يتفوَّهون بكلماتٍ تدلّ على الحياةِ بل الكلُّ يريدُ عرضَ المنتوجاتِ من بضائعَ وأعمالٍ وحتّى أفكار!
– يا مدينتي هل وصلَ إليكِ مرضُ التجارةِ غير الشريفة؟ وبراميلُ النفطِ وأسعار اليورو والدولار؟
أينَ صوتُكِ المعتاد؟ صوت عاصمةِ كلّ البلاد؟

تمشّيتُ في الأسواقِ ، أتنفّسُ رائحةَ الماضي ، رائحةُ الناس المنتجة وليس المستهلِكة فقط!

رُحتُ أحدّثُ نفسي :
– كُنّا نتبادل البضائعَ ببضائعٍ أُخرى لا بأوراقٍ عليها رسوماتٍ باتت بالية! …….
أصواتٌ هنا وهناك… فالكلّ ينظرُ الى الأعلى منتظراً بلا هدفٍ مرتفعاً عن الأرضِ بأحلامِه حتى باتت الأرضُ وحيدةً جائعةً تصرخُ للحالمِ ” أنا الأرضُ محقِّقةَ الأحلامِ، إزرعني أولاً ثم أُدعُ للمطرِ وليس العكسَ يا بني…”
…..
في السوقِ محلّات كثيرة وألوانٌ أكثَر تتركُ لمخيّلتك أن تذهبَ الى العصرِ والزمان الذي تريد.
– هذا سوقيَ المفضّل! سوقُ أجدادي ومستقبلي الماضي.

لفتَ نظري دكّانا صغيرا كبيرا، عُلِّق على زُجاجِه أوراقاً نقديّةً قديمةً خيّبت آمالي، لأنّها وبالرغمِ من جمالِ رسومات الأوراق المتآكلة… تذكّرتُ مشكلةَ بلادِنا
” لكَمْ كثُر إستهلاكنا وقلّ إنتاجُنا!”
سمعتُ صوتاً في الداخلِ أجملَ من أصواتِ كلّ البائعين، فهو لا يبيع! كان تحفةً مع أغراضِه القديمةِ.
صوتُ رجلٍ شرقيٍّ في كلّ مواصفاتِه، جميلُ اللونِ غائرُ العينينِ رافضاً أن يقولَ للماضي إرحلْ! وما بخُلَ عليه الوهّاب ببهاءِ الطلعةِ، فتراهُ يشربُ القراءةَ حتى يثمَل،
يقولُ في المرأةِ شعراً، يلفظُ الشّعرَ كالنحلةِ من شاعرٍ إلى قصيدةٍ، وأكثر ما يُلفته شاعرُنا حافظ إبراهيم عندما قالَ ما معناه:

“إنّ ليس بالعلمِ وحده ينتفعُ الإنسان بلا أخلاقٍ تتوّجُها… وإنّ في الشرقَ مُشكلةً بتربيةِ النساء…”

وتراه يُدمدمُ هذا البيتَ الذي يسكنُ كلّ بيتٍ ألا وهو:

“الأمُّ مدرسةً إذا أعددتَها أعددتَ شعباً طيًب الأعراقِ”

وبصمتٍ رائعٍ يعودُ كالطفلِ بين ذراعيّ والدته فيُكمِلُ،

“الأمٌ رَوْضٌ…
الأمّ أستاذُ الأساتذةِ… فتوسّطوا في الحالتين وأنصِفوا، فالشرُّ في التقييدِ والإطلاقِ
ربّوا البناتَ على الفضيلةِ إنّها في الموقفينِ لهنّ خيرِ وثاقِ”

سألني الدخولَ إلى دكّانِه المليء بالأشياءِ الثّمينةِ، وهو يعرفُ أنّه لن يتركَ شخصاً مثلي يقفُ وعيناه معلّقتان بكنوزِ مغارة “علي بابا”!

الشرقيّ: تفضّلي تفضّلي…
بنتُ الشّرق: “يا عمّ” أودّ سؤالك عن هذه المخطوطة كمّ عمرها ؟ (مخطوطةٌ معلّقة على بابِ الدُكّان)

الشرقيّ:(يضحك)، وهل فهمتِ المكتوبَ عليها لتسألي عن عمرِها ؟

(أخجلني ردّه) ! وبإسلوبِ الياسَمين كيما أُفهِمُه أنّي ما فهمتُ المكتوبَ عليها إلا أول وآخر حرف قلتُ له:
أنا بنتٌ عربيّة وأفهم هذه اللّغة!

الشرقيّ: وأنا منذ خمسينَ عاماً أحاولُ قراءتَها وما أفلحتُ وأتمنّى أن يقرأَها لي من كتبَها
(وصار يضحك)…تفضّلي تفضّلي

دخلت إلى دكّانِه فكلّ الأشياءِ تشدّ البصرَ إليها وعند التمعّنِ بها تنسيكَ الحاضر لترسلَكَ إلى عالمِها وماضيها… عالمٌ فيه رمادُ سجائرَ التاريخِ على الأشياءِ وهي تُصنع أو تُكتب… عالمٌ فيه آلهةً من الطبيعةِ اخترعناها…عرفناها وأحببناها، أمّا الله الحقيقيّ فقصّته معنا مختلفة.

جالَتْ عينايّ عبر الزمانِ من قَرنٍ الى قَرن … وأنا في القرنِ الثامنَ عشرة قاطعَني وسأل: أيُعْجِبُكِ المكان؟

بنتُ الشرق: جَميلٌ جداً! “عمّي” هل حَضرتُك المالِك أم ورثتَهُ عن أبيكَ؟

الشرقيّ: ما الفرق؟

بنت الشرق: عندما نرثُ شيئا من ذوينا في الغالبِ لا نتعبُ فيه ولا نفتِّشُ عن أصلِهِ، ولكن لو كانت القطعُ من اختيارِكَ وانتقائكَ بكلِّ جدّيةٍ وتفكيرٍ وقد أحببْتَها قبل إمتلاكِها لكنتَ التصقْتَ بها كخيالِكَ.

الشرقيّ: صحيحٌ أنّي ورثتُ الأشياءَ عن والدي لكنّني أحببتُها ووجدتُ نفسي متعلّقاً بها.

بنتُ الشرق: أتحسَبُ تعلُّقُكَ بها فقط لأنّكم كبرتم سويةً ؟

الشرقيّ: ما فكرْتُ في حياتي بسؤالِكِ، لكنّه سؤالٌ يجدرُ التوقّف عنده. هل هناك فرقٌ بين الوراثةِ والإختيار؟

وهنا قاطعنا شخصانِ ليسألا الشرقيّ

الشاب الأوّل: “عافاك الله يا عمّ”… يا تُرى أَنَجدُ لديكَ عُمُلاتٍ ورقيّةٍ فلسطينيّة قديمة؟

الشرقيّ: هذه الأيّام أنا أشتري العملاتِ.. ،لا أبيع.

الشاب الآخر: ولمَنْ ستخبِّأها يا عجوز!؟
(وبدأو بالضحكِ)

الشرقيّ: لو سمحتُمْ … يا شباب أخرجوا من دكّاني!

وخرج الشابانِ كمثلِ من تابع فيلمٍ فكاهيّ. ضِحكٌ وصوتٌ عالٍ قد أدهشَ المارّة … حتى أنا خجِلتُ من تصرّفِهما وتساءلتُ “متى أصبحتْ بلادُنا سعيدة إلى هذا الحد!”

فقال الشرقيّ بعصبيّةٍ: الناسُ أجناس…أنتِ دخلتِ كفراشةٍ ما أحسسْتُ بها، أمّا هُم فما عَرَفتُ كيفَ أُخرجُهم من دكّاني!

بنتُ الشرق: هل تقول الناس أجناس كالمعادِن؟

الشرقيّ: بالضبط!

بنت الشرق: ومنذُ متى تتبلورُ مادّةُ الشّخص؟

الشرقيّ: منذُ الولادةِ!

بنت الشرق: يعني عُدنا إلى نقطة الوراثةِ والإختيار. ألا يمكنُ للشابانِ أن يكونا أكثر تهذيباً بإختيارِهِما أم هم وُلِدوا قليليّ التهذيب؟

الشرقيّ:أكيد هم وُلِدوا قليليّ التهذيب، كما ثلثيّ البشرية…(يداهُ ترتجفان)

بنت الشرق: وأنا ما رأيُكَ بي؟

الشرقيّ: أنتِ يا ابنتي إسْمحي لي أن أدعوكِ الأتْرُجّة (البرتُقالة)، وُلِدتِ طَيّبة.

بنت الشرق: أنتَ شاعرٌ منذ الولادة أتسمحْ أن تكتبَ لي كلماتٍ بيديكَ!
وهنا كتب لي ما يلي:
“رأيتُ بنتَ الشّرقِ، فإذا هي فخرُ النساءَ في قولِها، ومكارمُ أخلاقِها، مثل الأترجّة، لونُها جميل، وريحُها طيِّبٌ، وطعْمُها لذيذٌ، حيّاها مَوْلاها، وأعطاها، وأرضاها.”

أعطاني الورقة وبعد قراءتي لما كَتب قلتُ له ما جعل وجهه يرفض ما كتبتْ يداه
فقد قلت له ثلاث كلماتٍ وهي : أنا ولدتُ شريرةً!

هنا وبعد أن تجعّدَ وجهَهُ الجميل المسِنّ عادَ فضحكَ وقال: لنْ تجدي شريراً يعترفُ بشرِّه، وها أنتِ قد أخطأتِ مرتينِ، مرّةً بإعترافِك ومرّةً عند قولِها بلطفٍ (ابتسَمَ)

بنت الشرق: أنتَ تؤمنُ بالوراثةِ، أليس كذلك؟

الشرقيّ: طبعاً

بنت الشرق: وها أنا قد ورِثْتُ طبيعتي الشريرة أيّ غير المطيعةِ، ألا تعتبر عدم الطاعة شرٌّ؟

الشرقيّ: وأبغضُ الشرورِ… لكن عن أيّ طبيعةٍ تتكلّمين، الطبيعة البشريّة؟

بنت الشرق: نعم، التي ورثناها عن أبينا آدم (ع)، فهو ما طاعَ وطُرِدَ من الجنّةِ وطُردْنا معَهُ، فهذه وراثة أليس كذلك؟

الشرقيّ: صحيح، لكن ما ذنبي وذنبُكِ بما فعلَ “أبونا آدم (ع)”؟

بنت الشرق: ذنبي وذنبُكَ أنّه أبونا ونحن من سلالتِهِ… ولكن يمكِننا إختيارُ شيءٍ آخر. وما أنتَ تراهُ الآنَ من تجديدٍ في طبيعتي هو إختياري أنا، فأنا “يا عمّي” ما سمحتُ لنفسي أن أتمادى في عدمِ الطاعة وأكتسبُ منها العاداتِ السيئة الأخرى.
لأن طبيعتَنا البشريةُ أمّارةٌ بالسوءِ فترانا نكذبُ، نسرقُ، نقتلُ، نحسدُ، نشتهي ما للغيرِ… ومنذ سنواتٍ تمرّدتُ على نفسي وفتّشتُ عن الحقيقةِ وأردتُ أن أتغيّرَ وها أنا اليومَ “أترجّة”!

فسألني الشرقيّ: مِنْ أينَ أنتِ؟

بنت الشرق: أنا من عاصمةِ الياسَمين ، فكلّ العواصمَ العربيةِ عرَفتُها، أمّا عاصمةُ الياسَمين فتعرفُني! أورثَتْني عطرَها…
وبعدَ نظراتٍ إلى حروفِ الورقةِ التي في يدي، رأيتُهُ يحاولُ الفرحَ بصرخةٍ وأنا أحاولُ الصراخَ بفرحٍ .
كان فرحُنا سبَبُه تغلّبنا على ثالثِنا حسب القول القائل “ما اجتمع رجلٌ وامرأة إلاّ …” أمّا الآن فاحتْ رائحةُ النقاءِ، رائحةُ الياسَمين.

قاطَعَنا الهاتفُ… وكان إبنُه يطمئنُّ عليه ويسأله:
… والدي، أتريدُني أن آتي في وقتِ الصلاةِ لتستريحَ وتصليَ في الجامع؟

نظرَ الشرقيّ بعينيهِ الى الخارجِ ينصتُ الى صوتِ الآذانِ والمارّةُ يتفرّسونَ في الواجهةِ.
خُيِّل اليَّ أنّه يطلبُ منهم عدمَ الدخولِ لأن في مقابلتِنا ما هو أهمُ من عرضِ كنزِه الثمين!

الشرقيّ: أنا قادمٌ بعد قليلٍ… مشغولٌ الآن (يبتسِمُ)
وبعد أن أقفلَ الهاتفَ شرحَ لي كيف يتناوب وإبنَه في العملِ!
وبينما هو يتحدّثُ … رحْتُ أقلّبُ الأشياءَ كطفلةٍ تتعرّفُ لأوّلِ مرّةٍ على موهبةِ المشي. وكنتُ في حديثٍ شيّقٍ مع نفسي أمسكُ قلبي بيدٍ والأثرياتِ باليدِ الأخرى،
” يا الله ما أروعَ بصمةَ الزمنِ فوق إبداعاتِنا!…

الشرقيّ: يا ابنتي قد ذكرتِ أنّك تغيّرتِ! من غيّركِ، وكيفَ؟

كان سؤالٌ لطالما سألته من قبلِهِ والجوابُ موجودٌ ينتظرُ من يسألَ عنهُ…

بنتُ الشّرق: يُهِمُّني أنّكَ إعترفتَ بتغييري لنبدأَ، إذنْ مِنْ هنا!

الشرقيّ: نعم، فكّرتُ بطبيعةِ الناسِ ، ومن منّا معصومٌ عن الخطأِ غير الأنبياءِ (ع)؟

بنتُ الشّرق: يا سيّدي هل آدم (ع) نبيٌّ؟

الشرقيّ: ومن الأنبياءِ الأوّلينَ!

بنتُ الشّرق: حسناً، عندما أكلَ من الثمرِ الممنوع في الجنة، لم يُطعْ ما طلبَه الله منهُ، هل يُمكِن أنّ نسمّيَ عدم الطاعة هذا عصيان ؟ ما رأيُكَ؟

الشرقيّ: لكنَّه تابَ وغفرَ لهُ الله تعالى لذلكَ هو معصوم!

بنتُ الشّرق: التوبةُ تعني أنّهُ تابَ عن خطأ ما ! وهذا الخطأ أتَتْ منه تسمِياتٍ كثيرةٍ، خطيئة، ذنب، معصية… وهذا ما حصل.

الشرقيّ: أستغفرُ الله العظيم، كيفَ تقولينَ أنّ الأنبياءَ غيرَ معصومين؟ أكْمِلي يا ابنتي… لو فرَضنا أنّ آدم (ع) قد أخطأ فما ذنبنا نحنُ؟

بنتُ الشّرق: ما جعلني أتكلّم مطوّلا عن المعصية هو ما سبق وذكرتُ أنّ كلّ النّاس هم أولادُ سيّدنا آدم (ع). فنحنُ وكلّ إخوتَنا وآبائنا وحتى أبناءَنا هم من لحمٍ ودمّ ومن صلبِ آدم (ع). ورِثنا عنْه المعصيةَ ويعوِزُنا اليوم أنّ نتغيّر بدون أنّ نغيّرَ لحمَنا ودمَنا!

الشرقيّ: إذنْ فأنتِ تقولينَ أنّه لو كانت لي أخلاق جيدة أو كنتُ مجرماً فالنتيجةُ واحدةٌ؟

بنتُ الشّرق: الأستاذُ، الطبيبُ، العاملُ، المجرمُ واللصّ كلّهم بشرٌ. أنا وأنتَ وكلّ الناس أبناء آدم “يا عمّي”، المعلّمُ يعلّمُ الفضيلةَ، أمّا تاجرُ السوءِ فيعلّمُ الرذيلةَ، هذا لا يغيرُ شيئاً من أصلِه ولكن…

الشرقيّ: أريدُ لكِنّ هذه…

بنتُ الشّرق: … ولكن طبعاً معلّمُ الرّذيلةِ يَزيدُ حظَّه السيّء مع المعصيةِ!

الشرقيّ: آه يا ابنتي حانَ وقتُ صلاة الظهرِ، وعليّ أن أصلّيها في موعدِها. أيمكنُكِ أن تعودي بعد قليلٍ وأُحضرُ الشاي ونكملُ حديثَ الياسَمين!

بنتُ الشّرق: طبعاً أعودُ بعد قليل .

بعد حديثي مع الشرقيّ، شعرتُ وأنا في سوقِ الياسَمين وهو السوقُ الشعبيّ المغطّى، أن أجنحةَ الملائكةُ ترفّ فتفوح رائحةُ حنين الماضي وأروقة المستقبل.
الملائكةُ لا تموت، والياسَمينُ أيضاً لا يموتْ ، مجتمعانِ في مدينةٍ واحدةٍ ملخّصُها هذا المكان سوق الماضي ، ودكّان صاحبنا الشرقيّ هو مركزُه.
إنقضى الوقتُ وقرّرتُ العودةَ. فتراني أطيرُ خطواتٍ وأرقصُ أخرى ، سعيدةً برفقةِ هذا الشخص الخليط بين الأمسِ واليوم في آنٍ واحد.

بنتُ الشّرق: السّلامُ عليكُم.

الشرقيّ: وعليكُم السّلام … أهلاً وسهلاً مرةً أخرى وليسَتْ أخيرة إنشاءالله، هيا فقد طلبتُ الشاي من البيت، تفضّلي.

بنتُ الشّرق: أشكرُكَ على لطفِكَ أنا لن أتأخّرَ، أريد العودة إلى البيت قبل المساء.

الشرقيّ: أين تجوّلتِ؟

بنتُ الشّرق: هنا! هنا أنتَ لا تذهبْ الى أيّ مكانٍ ، فهنا المكانُ يأتي إليكَ! هنا يجمعُ كلُّ مَنْ يفتّش عَنْهُ…

الشرقيّ: جميلٌ هو هذا المكان الذي لا مكانَ له! وبالنسبة لكِ اليوم، أين أنتِ؟ (يعطيني كوب الشاي)

بنتُ الشّرق: شكراً! أنا اليوم هنا لأُجيب عن سؤالٍ طرحناه منذ قليل، وهو كيف أغيّر نتيجة المعصية ولا أغيّر لحمي ودمي؟ وأنا إبنة آدم (ع)، كيفَ أتحرّرُ من خطيئتِهِ وعصيانِهِ؟

الشرقيّ: الحلُّ الوحيدُ هو أنّ تولدي من أبٍ آخرٍ وهذا غير منطقيّ!

بنتُ الشّرق: أنتَ قريبٌ يا عمّ ، ما رأيك أن يتبنّاني من يستطيع أن يحرِّرَني من عقابِ بشريّتي أيّ يعتقني من معصية آدم (ع) ؟ ومن يحملَ عني ذنبٍ ما قصدتُه ، فقط ورثته!

الشرقيّ: من يتبنّاكِ يجب أن يُعاقبَ عن البشريةِ كلّها ! ومن غيرُهُ تعالى يغيّرُ النتيجة؟ لماذا لا يمحي الله عنّا هذه المعصية وانتهى! يا ابنتي هو غفور رحيم.

بنتُ الشّرق: هو يغفّر المعصية بعد حصولِها لو أراد لكنّه لا يمحيها قبل حدوثها! يا عمّي أنتَ تَعْلَم أنّ كلام الله سبحانه نهائي وعندما يقول كنّ…

الشرقيّ: فيكون … آه الحمدلله ربٌ العالمين على قدرتِهِ وعلمِه!

بنتُ الشّرق: الله عزّ وجلّ غفور رحيم وكلمتُه أزليّة… سبحانه قال لآدم موتاً تموت ، وطرد آدم(ع) من الجنة! ونحن طُردنا معه!

الشرقيّ: لكنّ آدم (ع) لم يمتْ فقد تاب.

بنتُ الشّرق: تابَ نعم، فغفر له الله سبحانه برحمتِه، وفداه من الموتِ بذبيحة، الذبيحة التي كساه وأمّنا حوّاء بها وألبسَهُم وسترَ معصِيتَهُم..، وحيث أنّهُ تعالى عادلٌ لم يُبقِ آدم (ع) وحوّاء في الجنّة لكنّه طردهم منها نهائياً لأنّ
“الذي يزرعه الإنسان إيّاه يحصد أيضاً!”

الشرقيّ: هل التوبة فقط بذبيحة! وماذا عن الأعمالِ الصالحة؟

بنتُ الشّرق: أعمالَنا الصالحة لا تُفيُدنا، وكيفَ نستطيع أن نعملَ عملاً صالحاً مقابلَ كلّ معصيةٍ!! الأعمالُ الصالحة يجب أن تكونَ نتيجة الإيمان . إن إيمانَنا بأن الله ينقذنا من عقابِ المعصيةِ هو الإختيار الذي يحّررنا… وهذا يعني إن كنتَ مؤمناً تعمل عملاً صالحاً وليس العكس، العمل الصالح هو ثمر الايمان ، والأيمان ليس التسليم بوجود الله فقط بل أيضاً بقبولِ عمل الله الفدائي أيّ هبة الرّحمة.

الشرقيّ: آه، ومن سيحملُ العقابَ الذي لا بدّ منه؟

بنتُ الشّرق: الله نفسه! نعم لانه ما من أحدِ يستطيعُ أن يحملَ عقابَ معصية البشرية غير واضعِ العقاب نفسه.

الشرقيّ: الله نفسه ! فسّري لي ماذا ومتى نختار! في البداية قلتِ أنٌه مقابل الوراثة هناك إختيار.

بنتُ الشّرق: نعم ، كما أنا وأنتَ ورثنا المعصية أيضاً وطُردنا من الجنة، فالله تعالى وجدَ لنا حلاً وتحمّلَ النتيجة . نحنُ ورثنا المعصية ونحنُ نتحرّر بإختيارِنا لندخلَ الجنة.

الشرقيّ: وكيف ذلك؟ كيف تعرفين أنكِ ستدخلينها ؟ فالعلم عند اللهِ! هذا كفرٌ يا بنتي ، إنتبهي!

بنتُ الشّرق: أنا إخترتُ أن اتحرّرَ من المعصيةِ بإيماني بالفداءِ العظيمِ وبرحمة الله تعالى وطلبي التوبة ، ونتيجة هذا الإختيار أُعتِقْتُ من العقابِ وسأدخلُ الجنّةَ بعد الموت.

الشرقيّ: وما هو هذا الحلّ المجّاني، الفداء العظيم؟

بنتُ الشّرق: سأعطي مثلا بِما معناه وهو عندما يصنعونَ السيارة يضعونَ فيها مكابح لتحفظَنا من الحوادث ، وهم واثقونَ أنّنا سنكونُ في أمانٍ عند استعمالها في حالة الخطر. هكذا أيضا ربُّنا العظيم منذ بدايةِ الخلق، وضعَ لنا خطةً للرجوع إليه تحفظّنا في أمانٍ عند إختيارنا لها وتؤهِّلُنا للدخول إلى الجنّة، أمّا الجنّة كما يسمّيها سبحانه هي “المملكة الربانيّة” أيّ محضره تعالى.

الشرقيّ: وما هي هذه الخطّة ؟ أنا متشوّق جداً الآن، تابعي…

بنتُ الشّرق: كان العقابُ لمعصيةِ آدم (ع) هي طردُه من الجنّة ، وتكفيراً له عن معصِيتِهِ ذبحَ الله تعالى كبشاً وغطى آدم (ع) وحوّاء بجلدِه، وأُريق دم الكبش أيّ الذبيحة للتكفيرِ عن الذنبِ… كما نفعل اليوم في الأضحى المبارك وكما فعل الله تعالى عندما أنزل الكبش فداء” عن إبن سيّدنا إبراهيم (ع) ونجّاه من الموت! فكلّها قِصصٌ حصلتْ تَعَلَّمنا من خلالِها ماذا يعني الفداء وقيمة الذبيحة ولماذا يُراق دمِها.

الشرقيّ: وها نحنُ اليومَ نضحّي عن كلِّ معصيةٍ وعن كلِّ أمّتنا في كلَّ عام.

بنتُ الشّرق: يا عمّ وهل تكفي ذبيحة عن كلّ معصية؟ … حتى لو تنفّسنا نحن خُطاة !

الشرقيّ: الحقُّ معَكِ! حتى في عيونِنا نحن نخطئ ، يعني أنّ نَذبحَ ليلَ نهار لا يكفي!!
بنتُ الشّرق: لكنّ الله عظيم، فحضّر لنا ذبحاً عظيماً ولمرة واحدة يكفي للعمرِ كلَّه. لذلكَ أقول لكَ إنّ الله تعالى بنفسِهِ ضحّى من أجلنا ، أي نال العقاب كما الأبّ الحنون الذي يُعاقب عن فِعلةِ إبنه!
لقد تواضع تعالى وأتى ليقول “أنا وضعتُ القانون وأنا سأنفّذه” فكانت الخطّة البديلة…
أتى الله تعالى (بما معناه) وتواضَع ووضعَ روحه في بشرٍ، فاختارَ سيّدنا المسيح (سلامه علينا) لأنه كان يجب أن تُراقَ الدماء وكان هو الكبش عن معصيتِنا بل معاصينا. لقد أتى المسيح (س ع) ليموت عنكَ وعني وعنْ البشرية جمعاء لكنّهُ انتصرَ على الموتِ لأنّه ليس كبشاً عادِياً.

السيد المسيح ( س ع) هو صورة الله تعالى الذي نالَ العقاب ، ماتَ جسدياً وقام، لأنّ روحَهُ لم تمتْ، لأنّ الله حاشا له أنّ يموت!
الشرقيّ: استغفري الله يا ابنتي! إنه كلام غير مقبول، فالمسيح هو سيّدنا عيسى (ع) وهو بشريّ من لحمٍ ودم، وأيضا هو نبي كباقي الأنبياء حامل رسالة.

بنتُ الشّرق: يا عمّي كيف تفسّر لي الآية التالية “سلام عليّ يوم وُلِدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعثُ حيّا”… وها هو قد ماتَ وبُعِث حياً…

الشرقيّ: سألت أنا هذا السؤال قبلكِ وفتّشتُ مثلكِ وعرفتُ أنّه سيعود يوم القيامة ويموت ، ويعود مرّة ثانية.
بنتُ الشّرق: وهل أقنعكَ الجواب؟ فأنا فتّشتُ الكتبَ والتفاسير التي تقولُ ما ذكرتَ، وأشياءَ غير ذلكَ فكلّها إجتهاداتٍ. نأخذُ من التفسيراتِ ما يلمس قلوبَنا وندعو الله لإخوتِنا على فهمِ ما تيسّر من الذِكرِ المَبين!
لكن بعد هذا كلّه وبعد أن تعبتُ من التفتيش، سألتُ الله سبحانه وتعالى هذا الدعاء:
“يا ربّ من هو المسيح ؟ وما هي خطة الفداء؟ ولماذا آدم النبّي (ع) قد أخطأ وغيره من الأنبياء الذين اخطأوا لا تُذكر خطاياهم مع أنّها كبيرة ؟ وكيف هم معصومون؟ ومثل النبي داوود (ع) فقد قتل كما ورد في سورة البقرة :﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾،251، والقتل معصية مكتوب “لا تقتل”… تُكمِل الآية لتذكر أنّه لو لا القتل لفَسَدت الأرض فطُلِب من النبيّ أنْ يقتل، يا ربّ هل الغاية تبرّر الوسيلة فيصبح القتلُ مبرراً والنبيّ معصوماً؟.

أتاني الجواب وأنارَ اللهُ قلبي
وعرفتُ أنّ المسيحَ ربّي
ولحين عودته أعلنتهُ منارة دربي.

الشرقيّ: استغفر الله العظيم! ولحين عودته… ماذا سيحصل عند عودتِه! ماذا تعرفين عن عودتِه؟

بنتُ الشّرق: عندما يعودُ السيّد المسيح ( س ع) على الأرضِ سيأخذُ معهُ كل مَنْ آمنَ بخطةِ الله البديلة وهذا مكتوب، وهل يغيّر الله كلامَه؟ وهل يسمح بأن يحرِّفَ أحداً أقوالَه؟ قال كن فكان وكانت روحَه في بشرٍ مثلنا . فأُمّه سيّدة نساء العالمين السيّدة مريم (ع) هي من أبٍ وأمٍ بشريين، قد أنعم اللهُ عليها ووضع روحه القدّوس فيها فكانت الولادة المعجزة.

في تلك اللحظة رجفتْ يداهُ أكثر من العادةِ واغرورقتْ عيناهُ المجعّدتانِ وقالَ يدَمْدِمُ ” سُبحانَ ربيّ العظيم وبحمدِه… سبحان ربيّ العظيم وبحمده” كان يتلي صلاتَه وهو جالسٌ ينظرُ من حولِهِ وكأنّه يسلّم على الملائكةِ الحاضرة عند الصلاة ليقول ” هل أقبل ما تقولَهُ بنت الشرق؟ هل أصدّق؟ وهل أسْمح لها بالمضي في الكلام؟”
نظر إليّ وقال…

” أنا أريدُ أنّ أصدّقْ لكنَّني أخافَ أنّ يكونَ هذا كُفراً يا ابنتي أنّ نقولَ أنّ السيّد المسيح ( س ع) هو على مستوى الله تعالى!!
أشعر الآن بإحساسٍ غريب ، أشعر كأنّي طفلٌ يريدُ أن يبْكي… أخجل منك.

أذكرُ في تلك اللحظة أنّه وقبل أنّ يُكْمِلَ كلامَه كنتُ أنا من يبكي! بكَيتُ وبكيتُ بدموعٍ صامتة. ما صدّقتُ كيف تحوّل من عمرِ السبعينَ إلى أقلَّ من عشر سنوات. لقد عادَ يبتسمْ والدموعُ في عينيهِ كرائحةِ المكان.

بنتُ الشّرق: أتصدّق ما قلتُه لك؟ أتصدّق أنّ السيّد المسيح (س ع) هو مَنْ ضحّى عنكَ وحملَ معصِيَتَكَ ؟ لو صدّقت وآمنْتَ، تكونُ قد إخْتَرْتَ فتَصيرَ حراً .
هكذا هي الحقيقة صعبة وتصديقُها السهل الممتنع!

الشرقيّ: نعم أصدّق والحمدلله على كلّ شيء…سبحان ربيّ الأعلى وبِحَمْدِه!

وكان دعاءٌ تمنيتُ أن يُكتب في المخطوطة التي لفتتني وقت دخولي، رأيتُ كلّ المخطوطاتِ هناك تعيد كتابة ماضيها، ونهلّلُ معاً ونردّد: الشرقيّ، بنتُ الشّرق، المخطوطات…

“يا إلهنا الصّالح الأمين يا ربّ العالمين
يا توّاب إرحمْنا وإرحمْ عبادك الصالحين
من أجلِ توبة نسألُ النجاة المبين
وبشفاعةِ سيّدنا المسيح نسألُ رحمتك ، آمين
طهّر ونقّي قلوبنا يا الله يا عزيز يا مُجيب يا مُنيرٌ طريق الضّالين
أمامكَ عبدُك وعبدتُك يتضرّعون ، لِتَكُنْ مشيئتك يا رب العالمين
نطلبُ رحمة ورأفة ونقاء لنسلك في صُراطك المستقيم”.
وكأنّ شعاعٌ ينبعث من فوق الرفوف محوّلا التحف الى كنوزٍ تلمعُ… وأنّ ملائكةِ المكان قد اجتمعتْ كلُّها هنا لتحكي في السماءِ ما حصل ذلك المساء.
تنازل الشرقيّ عن قسوة الرجولة وتبدّلتْ ملامحَهُ من طاعنٍ في السنّ الى مقتبلِه وانفجر بكاءً، سمِعتَهُ يُتَمتِم والدموع على خدّيه…
“صدّق، فقط صدّق” قلتُ له
وقفتُ وتوجّهتُ إليه وهو يحاولُ مسح دموعِهِ بمنديلِه…
بنتُ الشّرق: هذه دموع الحريّة يا أبي!

الشرقيّ: كيفَ أشكركِ ، فقد علّمتيني كيف أكونُ حُراً، أنا مرتاحَ الضمير جداً الآن وسعيد كما لو أنّي في حالة صلاة دائمة! هل تأتين الى هنا دائماً ؟ أتوقّع منكِ زيارة أُخرى يا ابنتي.

بنتُ الشّرق: أنا ما عَلّمتُكَ أنا أَعْلَمْتُك! سأعود ونلتقي إنشاءالله في مدينةِ الياسَمين، وإنّ لم يكنْ هنا فسوف نلتقي هناك في مملكةٍ لونها بلونِ الياسَمين . فكما مدينة الياسَمين تعرفني صارت مملكة الياسَمين تعرفُكَ.

النهاية

الطبعة الاولى
بنت الشرق
جميع حقوق الطبع محفوظة للمؤلفة
٢٠١٢ ©
نُشرَ بإذن من المؤلفة